فصل: المسألة السادسة: في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الرابعة: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة؟

قال الشافعي رضي الله عنه: {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من أول سورة الفاتحة، وتجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما: إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل، ولا يقرأ لا سرًا، ولا جهرًا إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه، وإنما قال: يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} ويسر بها، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا، قال يعلى: سألت محمد بن الحسن عن {بسم الله الرحمن الرحيم} فقال: ما بين الدفتين قرآن، قال: قلت: فلم تسره؟ قال: فلم يجبني، وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة، وقال بعض فقهاء الحنفية: تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم، فالأولى السكوت عنه.
واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل: إحداها: أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد، أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية.
وثانيتها: أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها؟
وثالثتها: الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار، فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث.

.المسألة الخامسة: تقرير أن البسملة آية من الفاتحة ليس من المسائل القطعية:

في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية، وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية، قال: والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق، واحتج عليه بأن التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل، لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن، ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة.
والثاني: أيضًا باطل؛ لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو جعلناه طريقًا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنيًا، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف، وذلك يبطل الإسلام.
واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال: نفى كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف، وإن ثبت بالآحاد فحينئذٍ يصير القرآن ظنيًا، ثم أورد على نفسه سؤالًا وهو أنه لو قال قائل: ليس من القرآن عدم فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل؛ لأن الأصل هو العدم، وأما قولنا: أنه قرآن فهو ثبوت فلابد فيه من النقل، ثم أجاب عنه بأن قال: هذا وإن كان عدمًا إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن، فهاهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل، وحينئذٍ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواترًا أو آحادًا، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه، فهذا آخر ما قيل في هذا الباب.
والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن {بسم الله الرحمن الرحيم} كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا أنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي، وسقط تهويل القاضي.

.المسألة السادسة: في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة:

قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة، وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة، وهو قول ابن المبارك والثوري، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد {بسم الله الرحمن الرحيم} آية، {الحمد لله رب العالمين} آية، الرحمن الرحيم آية، {مالك يوم الدين} آية، {إياك نعبد وإياك نستعين} آية، {اهدنا الصراط المستقيم} آية، {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آية، وهذا نص صريح.
الحجة الثانية: روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن {بسم الله الرحمن الرحيم}». الحجة الثالثة: روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري، فقلت بلى، فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ قلت: ب {بسم الله الرحمن الرحيم}، قال: هي هي، فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن».
الحجة الرابعة: روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة، قال: أقول {الحمد لله رب العالمين}، قال: قل: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وروي أيضًا بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} {الحمد لله رب العالمين}.
وروي أيضًا بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم}، وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص.
وروي أيضًا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثانى} [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل لابن عباس: فأين السابعة؟ فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها إحدى آياتها».
وبإسناده أيضًا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد {بسم الله الرحمن الرحيم} قال الله سبحانه: مجدني عبدي، وإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله عزّ وجلّ أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله فوض إلي عبدي، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} قال الله تعالى هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل».
وبإسناده عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي، فافتتح الصلاة وتعوذ، ثم قال: {الحمد لله رب العالمين}، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له: يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن {بسم الله الرحمن الرحيم} من الحمد، من تركها فقد ترك آية منها، ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته، فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته.
وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} فقد ترك آية من كتاب الله».
واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله.
الحجة الخامسة: قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها، بيان الأول قوله تعالى: {إقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ولا يجوز أن يقال: الباء صلة زائدة، لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة، وإذا كان هذا الحرف مفيدًا كان التقدير إقرأ مفتتحًا باسم ربك، وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة، فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صونًا للنص عن التعطيل.
الحجة السادسة: التسمية مكتوبة بخط القرآن، وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن، ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف، ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن.
الحجة السابعة: أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين، فوجب جعلها من كلام الله تعالى، ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتًا.
واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة، بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور، وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي.
الحجة الثامنة: أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، قال: قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} آية واحدة، وقوله {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آية واحدة، وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال: بسم الله ليس بآية منها، لكن قوله {صراط الذين أنعمت عليهم} آية، وقوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف، فحينئذٍ يبقى أن الآيات لا تكون سبعًا إلا إذا اعتقدنا أن قوله {بسم الله الرحمن الرحيم} آية منها تامة.
الحجة التاسعة: أن نقول: قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة، فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل، وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: {واتبعوه} وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة العاشرة: قوله عليه السلام: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة، فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء، ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل، بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدوًا للرسول عليه السلام فقال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 3] فلزم أن يقال: الصلاة الخالية عن قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل النقصان قال بفساد هذه الصلاة، وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها.
الحجة الحادية عشرة: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: «ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟» فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم} فصدقه النبي عليه السلام في قوله.
وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية، ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] بل هذا بعض آية، فلابد وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع، وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة.
الحجة الثانية عشرة: إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين {بسم الله الرحمن الرحيم} حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة وقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها.
الحجة الثالثة عشرة: أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله، فوجب أن يجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضًا في حقنا، وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة، أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن نوحًا عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب {بسم الله الرحمن الرحيم}، فإن قالوا: أليس أن قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى؟ قلنا: معاذ الله أن يكون الأمر كذلك، وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس، وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة، فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب، وكانت قد سمعت باسم سليمان، فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}.